هل الأدب مرتبط بالعولمة؟ وهل من المحتوم على المخيّلة المعولَمة أن تعاني، بالتالي، بعض أو معظم عواقب التأزّم الذي تعيشه العولمة اليوم، في وصفها واجهة كونية للنظام الرأسمالي؟ ليس بالضرورة، في يقيني، وهنا امتياز الأدب وفضيلته، بصرف النظر عن الطبيعة البطيئة، أو ربما المتباطئة، التي تتمثّل فيها الأزمات الكبرى الطارئة في النصّ الإبداعي. والدراسات والمناهج النقدية التي باتت تلتقي تحت مسمّى «نظريات ما بعد الإستعمار»، تقدّم واحدة من أفضل الطرائق لدراسة هذه المسألة بالذات: المخيّلة الأدبية في ظلّ العولمة. وأبرز أسباب هذا التلاؤم بين العولمة ودراسات ما بعد الإستعمار هو حقيقة اشتراكهما في عنصرين: الاهتمام بتفسير أشكال التنظيم الاجتماعي والثقافي العابر لحدود الدولة ـ الأمّة، واقتراح مسارات جديدة لتفسير الإشكاليات الثقافية التي باتت المركزية الأوروبية التقليدية عاجزة عن تفسيرها.
والأنثروبولجي الهندي الأصل أرجون أبادوراي يعدّ بين أبرز الباحثين الذين اعتمدوا على مناهج دراسات ما بعد الإستعمار في تأمّل أقدار المخيّلة، والأدب والثقافة عموماً في ظلّ العولمة، وكتابه الممتاز «الحداثة طليقة: الأبعاد الثقافية للعولمة» مرجع رائد بالغ العمق حول هذه المسائل الشائكة. وهو يرى أنّ العولمة «نظام معقد متشابك فاصل لم يعد من الممكن النظر إليه في ضوء ما هو قائم من أنماط المركز/الأطراف»، وأنّ «العالم الذي نعيش فيه اليوم يتّسم بدور جديد تلعبه المخيّلة في الحياة الإجتماعية». ولكي نستوعب هذا الدور، ينبغي أن نضمّ معاً ثلاثة مفاهيم تخصّ التخييل: الفكرة القديمة عن الصورة Image، خصوصاً تلك المنتَجة ميكانيكياً (حسب والتر بنيامين ومدرسة فرانكفورت)، وفكرة «الجماعة المتخيَّلة» Imagined Community عند بندكت أندرسون (وهي، في عبارة أخرى، الأمّة في إنشائها الخطابي على يد الأفراد)، وأخيراً الفكرة الفرنسية عن «المخيال» L'imaginaire كمشهد مُنشَأ جَمْعياً حول الطموحات والآمال.
وثمة إجماع على أنّ النصوص الأدبية، وسواها من الأعمال الفنية، هي اليوم العلامات الأشدّ قوّة في تبيان عولمة التخييل. وللباحثين عن الهجنة والتجانس وامحاء الحدود وانبناء وعي مترابط في نظام عالمي جديد، أيّة مرجعية أفضل، وأجمل، من تلك التي توفّرها رواية غابرييل غارسيا ماركيز «مائة عام من العزلة» مثلاً؟ ألا تصبح مثل هذه الأعمال نصوصاً عالمية لأنها تحتوي على إطار مرجعي لم يعد يخصّ الدولة ـ الأمة، بل الكيان الأوسع، والقارّة الأعرض، ونظام العالم بوصفه مجموعاً كلياً؟
وينبغي القول إنّ معظم نظريات العولمة مالت، في البدء، إلى منح الصدارة للثقافة "غير الأدبية»، إذا جاز التعبير، أي لوسائل الإعلام على اختلاف أنواعها، إلى جانب التركيز على عناصر العولمة الكلاسيكية، مثل تكنولوجيا انتقال المعلومات وتبادلها (الإنترنيت، خاصة)، ورأس المال التمويلي، واضمحلال سيادة الدولة ـ الأمة. ذلك كلّه كان قد جرى على حساب دور الأدب، لكنّ الحال بدأت تتغيّر جذرياً في السنوات الأخيرة، وبدا واضحاً أكثر ذلك التشديد على العلاقة بين العولمة والثقافة، وفي مستوى أضيق: العولمة والأدب.
ومن الإنصاف الإشارة إلى أن الأدب، في معترك شاقّ مثل هذا، لم يفقد القدرة على تمثيل مختلف الموضوعات الاجتماعية والنفسية والسياسية («الأدبية» التقليدية في عبارة أخرى)، كما أنّ العمل من أجل تطوير أساليب حداثية وأجناس جديدة في التعبير لم ينحسر أو يكلّ. وبالطبع، توجّب على الأدب، بوصفه ملكية فكرية، أن ينحني أكثر فأكثر لمتطلبات العولمة، وأن يخضع لاقتصاد سياسي محدّد خاصّ بقوانين تلك العولمة، وشروطهل وسياقاتها.
وليس أمراً غير مرجّح أنّ عواقب العولمة، كما تتجلى هذه الأيام في أزمات النظام الرأسمالي الكوني، قد دفعت الأكاديمية السويدية إلى تماسّ أعمق مع أدب الفرنسي جان ـ ماري غوستاف لوكليزيو، حامل نوبل الآداب لهذه السنة، فتقدّم إلى رأس لائحة الترشيح الصغرى بسبب الجاذبية الراهنة لواحدة من أبرز الخصائص في أعماله: انسحاق الآدمي بين مطرقة الإغتراب والهجرة والنفي، وسندان المدينة والآلة والعولمة. وفي هذا الصدد توقفت الأكاديمية، على نحو خاصّ، عند روايتيه "أورانيا" و"راغا: مقاربة قارّة غير مرئية"، فاعتبرت أنّ العمل الأوّل إدانة للعولمة من باطن وادٍ سحيق في أقاصي المكسيك، والعمل الثاني توثيق لطرائق العيش التي تدمّرها العولمة في جزر المحيط الهندي. ولم يكن خافياً على الأكاديمية، في تكريم هذه السياقات تحديداً، أنّ لوكليزيو متعاطف مع الثقافات الأخرى غير الغربية، في معارك صراع البقاء التي تضعها في حال من المواجهة مع الثقافة الغربية، في ظلّ العولمة الزاحفة قسراً.
وقبل أيام معدودات من إعلان الفائز هذه السنة، أطلق هوراس إنغدال، السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، تصريحاً عنيفاً ضدّ الأدب الأمريكي، جاء فيه إنّ "الولايات المتحدة منعزلة ومنفصلة أكثر ممّا ينبغي. إنهم لا يترجمون بما يكفي، ولا يشاركون حقاً في حوار الأدب. الجهل يقيّدهم". وقد يتفق المرء أو يختلف مع هذا الحكم القاطع، إلا أنّ هاجس العلاقة بين الأدب والعولمة كان الباعث وراء تصريح إنغدال، كما يلوح. وهو تفصيل لا يطمس حقيقة أنّ أفضل روائيي أمريكا المعاصرين، أمثال توماس بينشون ودان دليلو، هم أفضّل نقّاد العولمة.